فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فصلٌ: فِي السَّلَمِ:

(وَمِنْهَا) قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ.
وَهُوَ السَّلَمُ، وَالْكَلَامُ فِي السَّلَمِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ.
أَمَّا رُكْنُ السَّلَمِ فَهُوَ لَفْظُ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ وَالْبَيْعِ بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ السَّلَمِ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي كَذَا أَوْ أَسْلَفْتُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ وَالسَّلَفَ مُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: سَلَّفْتُ وَأَسْلَفْتُ وَأَسْلَمْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِذَا قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ: قَبِلْتُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ: بِعْتُ مِنْكَ كَذَا وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ، فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ: قَبِلْتُ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ السَّلَمَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ أَصْلًا، لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ: وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ.
(وَلَنَا) أَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَامًّا، وَرُخِّصَ السَّلَمُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِيَسْتَقِيمَ تَخْصِيصُهُ عَنْ عُمُومِ النَّهْيِ بِالتَّرَخُّصِ فِيهِ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ.

.الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ:

(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًّا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، خُصُوصًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ، وَالسِّلْمُ لَيْسَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ عَلَى الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَا يَكُونُ وُرُودًا هاهنا دَلَالَةً فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إلَّا فِي الْمِلْكِ.
وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ الْمُسْتَحِقُّ صِحَّةَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ السَّلَمَ حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّ رَأْسَ الْمَالِ وَقَدْ افْتَرَقَا عَنْ الْقَبْضِ وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَكَذَا الْقَبْضُ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا.
وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَالسَّلَمُ لَا يَنْعَقِدُ بِرَأْسِ مَالِ دَيْنٍ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ خَاصَّةً، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ.
فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) بَيَانُ جِنْسِهِ كَقَوْلِنَا: دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ حِنْطَةٌ أَوْ تَمْرٌ.
(وَمِنْهَا) بَيَانُ نَوْعِهِ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَقَوْلِنَا: دَرَاهِمُ فَتْحِيَّةٌ أَوْ دَنَانِيرُ نَيْسَابُورِيَّةٌ أَوْ حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أَوْ تَمْرٌ بَرْنِيُّ.
(وَمِنْهَا) بَيَانُ صِفَتِهِ كَقَوْلِنَا: جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنَّهَا مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَمِنْهَا) بَيَانُ قَدْرِهِ.
إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَلَا يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالتَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ كَافٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ مِنْ الذَّرْعِ يات وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ.
لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ قَدْرِهِ وَيُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ وَلَا يُعْرَفُ وَزْنُهَا أَوْ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَلَمْ يُعْرَفْ كَيْلُهَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَرْعُهُ أَوْ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ عَدَدُهُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْلَامِ قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا فِي السَّلَمِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَيَلْزَمُ إعْلَامُ قَدْرِهِ صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عَنْ الْفَسَادِ مَا أَمْكَنَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي الْمَكِيلِ بِمِكْيَالِ نَفْسِهِ بِعَيْنِهِ، وَدَلَالَةً أَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا: إنَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ زَيْفٍ، وَقَدْ يَرِدُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى بَعْضِهَا فَإِذَا رَدَّ الزَّائِفَ وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِس الرَّدِّ وَلَمْ يَتَجَوَّزْ الْمُسْتَحَقُّ يَنْفَسِخُ السَّلَمُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَالْمُسْتَحَقِّ وَيَبْقَى فِي الْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ بِقَفِيزٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ هَلَاكَ الْقَفِيزِ، فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الزَّيْفَ وَالِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَبِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِيهَا مُلْحَقٌ بِالصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ سُلِّمَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، وَإِعْلَامُ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ فَأَسْلَمَهُ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ.
وَلَوْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ فَأَسْلَمَهُ فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ثَمَنِ رَأْسِ الْمَالِ، فَالثَّمَنُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَأَسْلَمَهُمَا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ.
(وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ إعْلَامَ الْقَدْرِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ وَاحِدًا وَقُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ انْقِسَامُهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءُ، وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَبْقَى قَدْرُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مُفْسِدَةٌ لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إعْلَامُ قَدْرِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَجَهَالَتُهُ لَا تَكُونُ ضَارَّةً.
وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ وَنَوْعُهُمَا وَاحِدٌ وَصِفَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَطُولُهُمَا وَاحِدٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَشَرَةِ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا عِنْدَهُمَا) فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ حَزْرٍ وَظَنٍّ فَكَانَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حِصَّةِ كُلِّ ثَوْبٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ مُرَابَحَةً بِلَا خِلَافٍ، وَنَذْكُرُ دَلَائِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
؛.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي مَجْلِسِ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ، وَالِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا لُغَةً وَشَرْعًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْلَمْتُ وَأَسْلَفْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَرُوِيَ: «مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَدُّمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ أَوْ يُقَارِنُهُ، وَالْقَبْضُ يَعْقُبُ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضٍ، ثُمَّ يَفْسُدُ بِالِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ الْعَقْدَ وَلَا يَتَقَدَّمُهُ فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَيْنًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهَذَا افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ جَائِزٌ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ يَكُونُ دَيْنًا عَادَةً وَلَا تُجْعَلُ الْعَيْنُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ إلَّا نَادِرًا، وَالنَّادِرُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ فَيَلْحَقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ فِي إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الْعَقْدِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَسَوَاءٌ قَبَضَ فِي أَوَّلِ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لَهَا حُكْمُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى قَامَا يَمْشِيَانِ فَقَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا.
جَازَ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا لَهُ حُكْمُ الْمَجْلِسِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبُولِ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ فَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَفِيهِ إسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ أَصْلًا لَكَانَ الْإِبْرَاءُ فَسْخًا مَعْنًى، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ عَقْدُ السَّلَمِ عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا قَبِلَ جَازَ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَرَاضِيهِمَا وَإِنَّهُ جَائِزٌ.
وَإِذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ وَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهُ إسْقَاطُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي، إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ.
وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أُعْطِيَ رَبُّ السَّلَمِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ، وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْأَرْدَإِ: جَازَ، لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَصْفُ، فَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ وَأَحْسَنَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ أَيْضًا، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْأَجْوَدِ، وَالْأَرْدَإِ اسْتِبْدَالًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْأَرْدَإِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فلابد مِنْ رِضَاهُ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ إذَا أَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ زُفَرُ لَا: يُجْبَرُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ رَبَّ السَّلَمِ فِي إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ مُتَبَرِّعٌ، وَالْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ التَّبَرُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْمِنَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ إعْطَاءَ الْأَجْوَدِ مَكَانَ الْجَيِّدِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يُعَدُّ فَضْلًا وَزِيَادَةً فِي الْعَادَاتِ، بَلْ يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ فِي الْقَضَاءِ وَلَوَاحِقِ الْإِيفَاءِ فَإِذَا أَعْطَاهُ الْأَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَجْمَلَ فِي الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ.
(وَأَمَّا) الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بِجِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ مَنْقُولٌ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَعْطَى أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(وَأَمَّا) اسْتِبْدَالُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِجِنْسٍ آخَرَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَ انْفِسَاخِ السَّلَمِ الْعَارِضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَيَجُوزُ اسْتِبْدَالُ بَدَلِ الصَّرْفِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ، وَالْكَفَالَةُ بِهِ لِوُجُودِ رُكْنِ هَذِهِ الْعُقُودِ مَعَ شَرَائِطِهِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ فَلَوْ امْتَنَعَ الْجَوَازُ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِمَكَانِ الْخَلَلِ فِي شَرْطِ عَقْدِ السَّلَمِ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ تُحَقِّقُهُ لِكَوْنِهَا وَسَائِلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَكَانَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ حَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ فَلَا يَصِحُّ.
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّوْثِيقِ يَحْصُلُ فِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا فَجَازَ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، فَإِنْ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا فِي الْمَجْلِسِ، سَوَاءٌ بَقِيَ الْحَوِيلُ وَالْكَفِيلُ أَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ افْتَرَقَا الْعَاقِدَانِ بِأَنْفُسِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ السَّلَمُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، وَإِنْ بَقِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا لَا لِبَقَاءِ الْحَوِيلِ وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدَيْنِ، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَجْلِسَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ لِمَا قُلْنَا، لَكِنَّ التَّقَابُضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا شَرْطٌ، وَافْتِرَاقُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلِ لَا يَضُرُّ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ افْتَرَقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا قَبْلَ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ كَمَا فِي السَّلَمِ.
(وَأَمَّا) الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَكْثَرُ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مَضْمُونٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ وَعَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَتَقَاصَّانِ فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَتَمَّ عَقْدُ السَّلَمِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تَمَّ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ الرَّهْنُ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ السَّلَمُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الرَّهْنِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ إذَا أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا تَمَّ عَقْدُ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا فِي السَّلَمِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَأَسْلَمَهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً فَيَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ.
فَإِنْ نَقَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هاهنا لَيْسَ إلَّا انْعِدَامَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً، وَقَدْ زَالَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ نَقَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ لَكِنْ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْعَدِمٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي يَدِهِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْقَبْضِ وَإِذَا وُجِدَ جَازَ، وَلَوْ أَسْلَمَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَافْتَرَقَا جَازَ فِي حِصَّةِ الْعَيْنِ وَبَطَلَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ.
وَالْمُفْسِدُ عَدَمُ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ فَيَفْسُدُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ وَيَبْقَى فِي الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ ثُمَّ انْتَقَصَ الْقَبْضَ فِيهِ بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاصَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ السَّلَمُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جُمْلَةَ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَيْنًا وَهُوَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَيْنًا وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالْعَيْنُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا، وَالدَّيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أَوْ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ، وُجِدَ كُلُّهُ كَذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا وُجِدَ بَدَلُ الصَّرْفِ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا.
فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ يَبْطُلُ السَّلَمُ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ.
وَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ السَّلَمُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ وَقَعَ صَحِيحًا فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ فَقَدْ صَارَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى النَّاقِدِ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَبِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ بِالتَّسْلِيمِ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ، غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَانَ الْبَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ الْمَعِيبُ عَيْنًا كَالتِّبْرِ، وَالْمَصُوغِ مِنْ الْفِضَّةِ وَلَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ، وَلَا رَضِيَ الْقَابِضُ بِالْمَعِيبِ حَتَّى بَطَلَ الصَّرْفُ يُرْجَعُ عَلَى قَابِضِ الدِّينَارِ بِعَيْنِ الدِّينَارِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِمِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ وَأَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ.
وَلَوْ كَانَ قَابِضُ الدِّينَارِ تَصَرَّفَ فِيهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كَمَا فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
هَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا، فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ مَاضٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْقَبْضَ كَانَ صَحِيحًا، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمَقْبُوضِ وَيَرْجِعُ عَلَى النَّاقِدِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ مِثْلِيٌّ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاسْتُبْدِلَ فِي الْمَجْلِسِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كَانَ دَيْنًا كَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَيْنَهُ، فَقَبْضُ الْمُسْتَحَقِّ إنْ لَمْ يَصِحَّ أَوْ انْتَقَضَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ، يَقُومُ قَبْضُ مِثْلِهِ مَقَامَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَأَخَّرَ الْقَبْضَ فِيهِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ قَبْضُ الْعَيْنِ.
وَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَعَذَّرَ إقَامَةُ قَبْضِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَجُعِلَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ يَبْطُلُ السَّلَمُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ.
هَذَا إذَا وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً، فَإِنْ تَجَوَّزَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِالزِّيَافَةِ وَفَوَاتِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ، فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْعَيْبِ وَرَضِيَ بِقَبْضِ حَقِّهِ مَعَ النُّقْصَانِ، بِخِلَافِ السَّتُّوقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ تَجَوَّزَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهِ وَرَدَّهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاسْتَبْدَلَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَالْعَقْدُ مَاضٍ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ السَّلَمُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ قَبْضَ الزُّيُوفِ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ الْحَقِّ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ كَالسَّتُّوقِ، إلَّا أَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِالزِّيَافَةِ فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا لَا وَصْفًا فَكَانَتْ الزِّيَافَةُ فِيهَا عَيْبًا، وَالْمَعِيبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا وَبِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَكِنْ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الرَّدِّ وَلَا يَسْتَنِدُ الِانْتِقَاضُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ صَحِيحًا، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ الْقَبْضُ مَرَّةً وَاحِدَةً، إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ؛ لِأَنَّ لِلرَّدِّ شِبْهًا بِالْعَقْدِ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، إلَّا بِالرَّدِّ كَمَا لَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، إلَّا بِالْعَقْدِ فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَكِنْ أَصْلًا لَا وَصْفًا، وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنْ الْوَصْفِ فَكَانَ حَقُّهُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ لَا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْوَصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ لِإِبْرَائِهِ إيَّاهُ عَنْ الْوَصْفِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فَيَبْطُلُ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ.
هَذَا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً، فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا، فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَانَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ، وَسَوَاءٌ تَجَوَّزَ بِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ التَّجَوُّزُ بِهِ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الزُّيُوفِ فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَاسْتَبْدَلَ فَالسَّلَمُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ دَرَاهِمَ هِيَ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَإِذَا قَبَضَهَا فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْتَحَقَ قَبْضُ السَّتُّوقِ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ أَصْلًا وَأَخَّرَ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ حَتَّى بَطَلَ الصَّرْفُ فَقَابِضُ الدِّينَارِ يَسْتَرِدُّ دَرَاهِمَهُ السَّتُّوقَةَ وَقَابِضُ الدَّرَاهِمِ يَسْتَرِدُّ مِنْ قَابِضِ الدِّينَارِ عَيْنَ دِينَارِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَمِثْلَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ وَبَقِيَ الدِّينَارُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَأَشْبَهَ يَدَ الْغَصْبِ وَاسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِدُّ عَيْنَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا كَذَا هاهنا وَطَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ عَيْنَ الدِّينَارِ.
وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِثْلَهُ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ الدِّينَارِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا فِي الْفَسْخِ، وَالِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ظَهَرَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بَاطِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ وَهُنَاكَ الْعَقْدُ وَقَعَ صَحِيحًا وَإِنَّمَا بَطَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِعَارِضٍ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ فَلَا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عِيسَى وَنَصَرُوهُ وَحَمَلُوا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى مَا إذَا اخْتَارَ قَابِضُ الدِّينَارِ رَدَّ عَيْنِ الدِّينَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا وُجِدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَفِي الِاسْتِحْقَاقِ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ يُنْقَصُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، سَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ انْتَقَصَ فِيهِ بِقَدْرِهِ، وَكَذَا فِي السَّتُّوقِ، وَالرَّصَاصِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا هَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ قَابِضَ السَّتُّوقَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فِي الدِّينَارِ الَّذِي دَفَعَهُ بَدَلًا عَنْ الدَّرَاهِمِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى: قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا فِي الزُّيُوفِ، وَالنَّبَهْرَجَةِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُنْقَصَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ إذَا لَمْ يَتَجَوَّزْ، وَرَدَّهُ- اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَا- وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْدُودِ لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَدْرِ الْمَرْدُودِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي الْقَلِيلِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ قَلِيلًا فَرَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَالْعَقْدُ مَاضٍ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ؛ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الْقَلِيلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَعَ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يَكُونُ كَثِيرًا، وَفِي رِوَايَةٍ النِّصْفِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ، وَكَذَا هَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَثُرَتْ الزُّيُوفُ فَرَدَّ حَتَّى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الْمَرْدُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ عَيْنَهُ.
وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى: قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي عَقْدٍ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِمَّا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَنَانِيرُ فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ، أَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ مَكِيلٌ، أَوْ مَوْزُونٌ مَوْصُوفٌ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ مِثْلُهُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ مِمَّا يَكُونُ قَبْضُ الدَّرَاهِمِ فِيهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، فَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ وَجَدَهَا مُسْتَحَقَّةً، أَوْ زُيُوفًا، أَوْ نَبَهْرَجَةً، أَوْ سَتُّوقَةً، أَوْ رَصَاصًا كُلَّهَا، أَوْ بَعْضَهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مُقَاصَّةُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِدَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِأَنْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَبَ دَيْنٌ آخَرُ بِالْعَقْدِ.
وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ، وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى السَّلَمِ بِأَنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ بَاعَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، فَإِنْ جَعَلَا الدَّيْنَيْنِ قِصَاصًا، أَوْ تَرَاضَيَا بِالْمُقَاصَّةِ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قِصَاصًا كَيْفَ مَا كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ، وَالْحَاصِلُ بِالْمُقَاصَّةِ لَيْسَ بِقَبْضٍ حَقِيقَةً فَكَانَ الِافْتِرَاقُ حَاصِلًا لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَبَطَلَ السَّلَمُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْقَبْضِ حَقِيقَةً لَوْلَا الْمُقَاصَّةُ، فَإِذَا تَقَاصَّا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَقَدْ وُجِدَ.
وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا فِي الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَتَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ جَمِيعًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ السَّلَمِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَإِنْ جَعَلَاهُ قِصَاصًا، إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ شَاذَّةً؛ لِأَنَّ بِالْمُقَاصَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَسْتَدْعِي قِيَامَ دَيْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَقْدِ السَّلَمِ، إلَّا دَيْنٌ وَاحِدٌ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا حَقِيقَةَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمُقَاصَّةِ.
هَذَا إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِالْعَقْدِ، فَأَمَّا إذَا وَجَبَ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا، سَوَاءٌ جَعَلَاهُ قِصَاصًا، أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ الْآخَرِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنْ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا حَقِيقَةً فَقَدْ وُجِدَ هاهنا لَكِنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ قَبْضٌ حَقِيقَةً فَيُجْعَلُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَبْضُ الْغَصْبِ مَحْظُورٌ وَقَبْضُ الْقَرْضِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَكَانَ إيقَاعُهُ عَنْ الْوَاجِبِ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ حَقِيقَةً، وَالْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ يُمْكِنُ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا تَسَاوَى الدَّيْنَانِ، فَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ، وَالْآخَرُ أَدْوَنَ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْقِصَاصِ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَفْضَلِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَدْوَنِ يَصِيرُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَفْضَلِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْفَضْلِ كَأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ وَهُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الْمُقَاصَّةُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ تَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، فَافْهَمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، فَأَمَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ، أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَبْضُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ الْقَبْضِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَقَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَقَبْضِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْقَبْضَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي الْبَابَيْنِ مَا هُوَ شَرْطٌ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْبَدَلُ مُعَيَّنًا بِالْقَبْضِ صِيَانَةً عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ فَيَعُودُ إلَيْهِ عَيْنُهُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نَفْسَ الْقَبْضِ فَلَا يُرَاعَى لَهُ الْمَجْلِسُ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَحْصُلُ، إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَهُ جَائِزٌ فلابد مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَتَعَيَّنَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.